إيران تُغير موازين القوى وتعيد تشكيل خرائط الشرق الأوسط: متابعة عاجلة للأحداث المحلية

كتب عوني الرجوب حين تتحدث القوة بلغة صارخة، تُخرس الأصوات وتلغي الحسابات السابقة. ويبدو أن قصف إيران لقاعدة “العديد” الأمريكية في قطر لم يكن مجرد عمل عسكري، بل هو إعادة صياغة لمفهوم الهيمنة في الشرق الأوسط، وضربة لمصداقية نظرية الردع الأمريكية – الإسرائيلية. لقد تمكنت طهران من تحطيم صورة القوة الأمريكية في الخليج، وأعادت ترتيب أولويات التحالف الثلاثي (أمريكا – إسرائيل – الخليج)، مع فرض معادلة جديدة: إما انسحاب تدريجي، أو اشتعال شامل بلا قيود.

تجاوزت إيران جميع محاولات الاختراق وواجهت الأزمات بشجاعة، رغم تعرضها لعدة هجمات أمنية واستخباراتية إسرائيلية عميقة، مثل اغتيال قاسم سليماني ومحسن فخري زادة، وضرب منشآت نووية وموانئ، وإنشاء شبكات تجسس داخل إيران. لكن كل هذه المحاولات لم تُفقد طهران تماسكها، بل جعلتها تدير ردودها بهدوء استراتيجي ملحوظ، فعندما استهدفت قاعدة “العديد”، أرسلت رسالة قوية تعكس ضد الهيمنة وكسر احتكار القوة.

إنه من المحير التفكير فيما لو أن الوضع كان معكوسًا، إذ لو تمكنت إيران من اختراق الأمن الإسرائيلي بنفس الدرجة، لكانت تل أبيب قد أبلغت عن هزيمتها منذ اللحظة الأولى للهجوم، حيث كان قادتها سينجحون في الاختباء، كما حدث في الآونة الأخيرة عندما تعرضوا لضغوط من إيران.

في الماضي القريب، كان ترامب يلوح بالتهديدات ويقول: “إذا هاجمت إيران مصالحنا، سننهي وجودها.” بينما كان نتنياهو يتحدث بجنون عن جعل إيران جزءًا من الماضي. لكن بعد صاروخ إيراني منفرد استهدف “العديد”، تبدلت المواقف بشكل ملحوظ: أمريكا تدعو إلى خفض التوتر، وإسرائيل تبحث عن مخرج مُحترم، والخليج يلزم الصمت الاستراتيجي. إذا أطلقت إيران كميات ضخمة من الصواريخ على جميع القواعد الأمريكية في المنطقة، لن يتبقى للهيمنة الأمريكية أي وجود مستدام، وسينحسر الردع الإسرائيلي تمامًا.

تظهر الضربات الأخيرة كيف أن “الجيش الذي لا يُقهر” ليس إلا وهمًا، حيث يتراجع أمام صواريخ دقيقة وطائرات مسيرة، وفضلاً عن ذلك، تُظهر الأحداث أن إسرائيل ضعيفة دون الدعم الأمريكي، ولا تمتلك الإرادة لمواجهة حرب استنزاف، وعجزها عن المخاطرة بوجودها عندما تتواجد إيران. لقد أصبحت قوة هشة يُمكن أن تتكسر سريعًا مهما كانت شعاراتها عن القوة.

فيما يتعلق بغزة، التي ظنّ كثيرون أنها ستبقى مكسورة، فإنها تحولت اليوم إلى ورقة صلبة في السياسة الدولية، من رماد الحصار إلى طاولة المفاوضات. السؤال المطروح الآن: هل يمكن أن تصبح غزة جزءًا من مفاوضات سرية بين أمريكا وإيران؟ لقد أثبتت المقاومة أنها قوة يمكن أن تغير المعادلات، وليست مجرد حالة إنسانية تتطلب المساعدة. وإذا جلست واشنطن مع طهران على الطاولة، فإنها بلا شك لن تستطيع تجاهل غزة، التي تمكنت من كسر جبروت إسرائيل بصبرها وتكتيكاتها المفاجئة.

أما نتنياهو، الذي سعى لترويج مشروع “الشرق الأوسط الجديد” على مدار أكثر من عقد، فقد انهارت أحلامه بعد سلسلة من الهزائم في غزة وبيروت وصنعاء وطهران. تنامى قوة إيران، بينما تعرضت إسرائيل للفضيحة، وتزعزعت مواقف الدول العربية المعروفة. اليوم، يسعى نتنياهو لإيجاد ملجأ في خطاب الخطر الوجودي، بعدما فشل مشروعه حتى قبل استكماله.

المعركة المقبلة ليست فقط مسألة ما حدث، بل تتعلق بما هو قادم: هل ستحجب أمريكا تدريجياً تركيزها في الشرق الأوسط؟ هل ستظهر الصين وروسيا لتعويض هذا الفراغ؟ هل ستتحرك تركيا وقطر ومصر لبناء محور جديد؟ هل ستتحول إيران من قوة ردع إلى قوة سياسية إقليمية؟ جميع الاحتمالات مفتوحة، لكن المؤكد أن الشرق الأوسط ما بعد “العديد” لا يمكن أن يكون كما كان قبل ذلك.

لقد أثبتت إيران أن الصواريخ الدقيقة تتحدث بلغة تفهمها الخصوم أكثر من أي دبلوماسية، وأن من يدوم صبره يمكنه تغيير الجغرافيا. من يمتلك النار يفرض شروط الحوار. اليوم، تطلب واشنطن الهدنة، بينما يتوارى قادة تل أبيب تحت الأرض، فيما تبقى غزة على قيد الحياة رغم الأنقاض، بينما تكتب طهران التاريخ على أجنحة الطائرات المسيرة.