تحالفات ما بعد الحرب: سلام الضرورة في المنطقة
في كل منعطف حاد تشهده منطقة الشرق الأوسط، تظهر مفاهيم سياسية تذكّرنا بأنه لا يُجسد العلن دائماً ما يجري وراء الكواليس. مع استمرار نيران الحروب، يتجه البعض نحو ترتيبات تُعرف بـ”تحالفات الأمن الإقليمي”، والتي تعني فعلياً إعادة هيكلة منطقة تعرضت لخرائط تتغيّر على نحو سريع وتتنافس فيها قوى متناقضة. في هذا السياق، نجد أن المشهد الحالي في إسرائيل، حيث يجتمع زعماء من الخليج والمشرق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، يبدو كاحتفال رمزي بنهاية العداء التاريخي، أو هذا ما يُراد أن يفهمه المتابعون.
سلام الضرورة في سياق الجيوسياسية
لكن خلف هذا المشهد الهادئ تطرح العديد من القضايا: من الذي يخطط لهذا السلام؟ من يتحمل أعباءه؟ وهل هو فعلاً سامٍ وحقيقي، أم مجرد ترتيب مؤقت يعتمد على المصالح لا القيم؟ في إطار فلسفة ما بعد الحرب، يُشير البعض إلى أن الأطراف التي تعاني من العواقب هي الأكثر انفتاحاً على التسويات. إن ما يجري في منطقتنا يؤكد غياب الشعوب عن هذه الاتفاقيات التي تُقرر بعيداً عن أنظارها. من سوريا المثقلة بجراحها، إلى لبنان الذي يواجه شبح الانهيار، مروراً بفلسطين التي تواجه تحديات تهدد قضيتها تحت عناوين زائفة من “الفرص الاقتصادية”، يتضح أن هناك إعادة تفكير في خرائط سايكس-بيكو، ولكن بأسلوب معاصر يروج له بأعلام براقة وشعارات مثل “الاتفاقيات الإبراهيمية” و”السلام الإقليمي”.
الأحداث الحالية تعكس ما يُعرف في علم الجيوسياسية بـ”سلام الضرورة”، الذي لا ينبع من إرادة الشعوب أو من العدالة، بل نتيجة لخلل في موازين القوى وتغيير أولويات الحلفاء. منذ أن بدأت الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة ترامب في تعزيز مساعي التطبيع الإقليمي تحت غطاء التحالفات الأمنية، توسعت هذه العملية لتشمل عواصم لم يكن يُتصور أنها ستتقارب مع تل أبيب، بينما تُغيّب المطالب التاريخية للشعوب، وفي مقدمتها الحقوق الفلسطينية.
في هذا السياق، تُستخدم الرموز الإعلامية كأدوات للضغط النفسي، لترسيخ صورة “التحالف الكبير” الذي يجمع خصوم الأمس كأصدقاء اليوم. ورغم ذلك، تبقى الحقيقة أن الحروب لم تنتهِ، واللاجئون بعيدون عن العودة، والقدس لم تُحرر بعد. إننا نعيش مرحلة حاسمة ليست فقط في مسار الصراع العربي-الإسرائيلي، بل في استقلالية القرار العربي ذاته، حيث عندما يصبح الأمن الإقليمي خاضعاً لإرادة تل أبيب وواشنطن، تُعاد توزيع الأدوار وتُسحب أوراق القوة من أيدي العرب.
وبذلك، تبقى اللوحات الإعلانية في شوارع تل أبيب مجرد صور صامتة، بينما الواقع الباعث على القلق يُظهر أن السلام لا يُبنى على الإعلانات الدبلوماسية، بل يحتاج إلى إطار من العدالة والاعتراف المتبادل بالحقوق، وذاكرة لا يمكن محوها بسهولة من شعوب لم تنسَ بعد مرارة التجربة والنكبة.
تعليقات